"جهلتَ ولم تعلم بأنكَ جاهلٌ ** فمن لي بأن تدري بأنكَ لا تدري"
الخليل بن أحمد الفراهيدي شاعر ولغوي عربي
الخليل بن أحمد الفراهيدي شاعر ولغوي عربي
اللغة خلقها الله وسيلة تواصل وأتصال بين الكائنات حتى الحيوانات والحشرات لها لغتها ، ولقد كُرِمَّ الإنسان بالنطق لتكون لغُتهُ مميزة عن كُلِّ الكائنات الأُخرى ، ليُعْبِّر به عن ألامه وأحزانه وهمومه وأشجانه وأفراحه وطموحاته وكل ما يجول بخاطره ، و لكل أمة لغتها التي تُعبر بها عن ذاتها ، فاللغة هي هويةُ الشعوب وهي وصف شخصيته لأنها ببساطة تُجسد ثقافتها وتُسجل حضارتها و تنقل بها قيمها وعاداتها أجيالا متعاقبه .
من خلال فهم لُغة شعب ما يمكنك سبر غور تاريخه وحضارته ومعرفة أسلوب حياته وقيمه .
في كُلِّ الأمم والشعوب تنقسم اللغة إلى قسمين : لغة محكية متداولة يمارسها العامة ، ولُغة أدب تمارسها الصفوة يُسجل بها العلوم والأداب ويُحفظ بها تاريخ تلك الأمم والشعوب .
وكلا القسمين يسجل ويرصد ما مرت به تلك الشعوب سواء من حضارات وأزدهار أو مِحنٌّ وأستعمار .
واللغة العربية أحدى تلك اللغات العريقة التي مازالت تقف بثبات منذ سنوات كبيرة ، ومن أكثر اللغات الحية التي ما زال أهلها يستطيعون فهم وقراءة ما كُتب في أمهات الكتب التي سطرها الجدود قبل أكثر من ألف سنة ، بينما تفقد لغات حية عريقة أخرى هذه الميزة ومنها اللغة العبرية واللغة الأرمية وغيرها من اللغات العريقة والتي ماتزال متدولة ، رغم أن تداولها ليس بقوة حضور اللغة العربية . ونسنثني من ذلك اللغة الصينية القديمة حيث يمكن للصفوة فك رموزها لكن لا يمكن للعامة فعل ذلك ، وهذا عكس العربية .
اللغة مثل الأرض تتأثر بالطقس ، فمرةً تزدهر ومرة تذوي ، وكل ذلك يترك بقايا فيها ، ولقد سنَّ الله التغيير كسمة من سمات الوجود ، فكان من الطَبْعِيّ أن تتأثر اللغات ببعضها ، فتأخذ وتُعطي ، تبعا لمبدأ الغلبة والضعف ، وحتى في أوقات الإستقرار لا ينفك ذلك الأخذ والعطاء وفقاً لفسلفة التواصل الحضاري والحوار بين الثقافات التي جَبَلَ الله الناس عليه ، لأجل ذلك تطورت اللغات وبعض منها أندثر ، وأُخرى فرضت هيمنتها على اللغات الأخرى فأضافت في تلك اللغة شيئاً من ألفاظها ، وتكون نسبة تلك الأضافة تبعا لقوة اللغة المُضيفة ، وضعف اللغة المضاف إليها .
أذاً فالإتصال الحضاري والتواصل الحضاري هو سمة رقي وإزدهار خاصة أن كان بالقدر الذي لا يفقد اللغة الأم هويتها الأصيلة ولا يكون سبيلا للأندثارها.
كذلك حال اللغة العربية ، لُغة الجمال والرُقي ، لغة الأدب البديع والسحر الحلال ، اللغة العربية هي هوية الأمة العربية وبها جاء أعظم الكُتب السماوية المُقدسة وهو القرآن الكريم . عاش العرب بقطبيهم : القحطاني والعدناني في جزيرة العرب ، وشكلت اللغة أساس هويتهم ، فكادت أن تكون من مقدساتهم ، لقد قدسوها كما لم تُقدس أمة لغتها ، ويكاد لا يُشبههم في هذا إلا الصينيين التي رغم صعوبة رسم حروفها وكثرة عددهن مازال شعبها متمسكٌ بها .
وكما جرت سُنَّةُ الله في الأرض فقد مرت هذه الأرض بمراحل تراوحت بين الإنتصار والإزدهار وبين الدمار والإستعمار لكن اللغة العربية بقية قوية ثابته ، لم تندثر ـ رغم المحن العظيمة التي مرت بها ـ كما أنثرت لغات أقوامٍ أخرين مثل اللغات السلتية التي كان يتكلم بها السكان الأصليون لأنجلترا قبل الغزو السكسوني .
أخذت اللغة العربية من غيرها من اللغات سواء بحكم فرض الثقافات في زمن الإستعمار أو التخالط مع الأخر في زمن الفتوحات والإنتصارات ، لكن ما منحته من ألفاظ لغيرها كأن أكثر بكثير مما أخذته وأستوردته . هذا عدا عن أنتشارها إلى بقاع أصبحت فيها العربية هي اللسان فيها .
وهناك الكثير الكثير من الدراسات اللغوية التي أثبتت هذا الأمر ، وللعلم أن أغلب تلك الدراسات وضعوها أناس من لغات أخرى ، بمعنى أخر هم أناس ليس لهم مصلحة في مدح لغتنا والثناء عليها ، وليس لهم مصلحة للرد على أولئك المنتقدين للغة العربية بغير برهان .
عبر تاريخها أخذت اللغة العربية ألفاظات من لغات كثيرة بحكم الإتصال الحضاري من تلك اللغات : الفارسية ، و اليونانية ، و السريانية ، و العبرانية ، و التركية ، و الإيطالية ، و الفرنسية ، و الاتينية ، ولغات أخرى .
لكنها منحت الكثير للغات أخرى منها ـ مثالا لا حصراً ـ : اللغة الأوردية ( الأوردو) وقد أحصت بعض المعاجم الأوردية الألفاظ العربية التي أقتبستها الأردو منها 7584 كلمة وهي تستخدم الحرف العربي للكتابة ، 3303 كلمة في الملايوية ـ وهو أحصاء مبدئي تضمنه مشروع معجم ملايوي عصري شامل لأحد الأخوة الفضلاء للغة الملايوية ـ وهي لغة تستخدمها شعوب دول جنوب شرق آسيا من ماليزيا وإندونيسيا وبروناي دار السلام وسنغافورة وفطاني بجنوب تايلند ، و160 كلمة في الإنجليزية ، وكذلك لا ننسى اللغة التركية والتي كانت في أوج سيطرة الأتراك على الأمة العربية يستخدمون الحرف العربي لكتابةِ لُغتهم ، ولم ينتقلوا للحرف اللأتيني إلا في عهد كمال أتاتورك العلماني ، كذلك اللغة الأمازيغية التي تضمنة مفردات عربية ، وكذلك لُغة الهندو التي يتحدثها نسبة كبيرة من سُكان الهند ، وأيضا اللغة الفارسية المستخدمة في أيران اليوم وهذه اللغة مازالت تستخدم الحرف العربي في كتابة لغتها ، و اللغة السواحلية التي يتحدثها سكان ساحل كينيا وزنجبار وهذه لغة حفظها العرب العُمانيون حين قاموا بجعلها لغة مكتوبة ـ ولم تكن إلا لغة شفاهية ـ وأستخدموا الحرف العربي لكتابتها وجعلوها اللغة الرسمية للدولة العربية في زنجبار رغم أنهم ـ أي العرب ـ كانوا أصحاب السلطة والقوة حينها ، كذلك اللغة الإيطالية وخاصة في جزيرة صقلية ، وكذلك اللغة القبرصية اليونانية ، واللغة الأسبانية ( الأندلس سابقا ) ، هذا وناهيك عن اللغة المالطية التي يتحدثها سكان مالطا والتي تستطيع أنت يامن لا يُجيد التحدث بالمالطية أن تستمع للمالطي وهو يتحدث لغته وأنا على ثقة تامة أنك ستفهم ما يعنية دون كبير مشقة ، لأن لغتهم تحتوي نسبة عظيمة من الألفاظ العربية .
هذا بعض مما عند تلك اللغة القوية العظيمة الساحرة ، وهذا كله على سبيل المثال لا الحصر ، هذا جوابي لمن يعيب على اللغة العربية أقتباسها من اللغات الأجنبية اليوم ، وهو لا ينتقد حبًّ للعربية ، وأنما تسفيها وتحقيرا ، وما ذلك إلا لجهله أو لخيانة أرادها .
فتدمير ثقافة أي قوم ، والغزو الثقافي له يمنح العدو السلطة على رقاب ذلك الشعب ، وبصراحة هذه الأمة أرهقت الصهاينة وأذنابهم فما أستطاعوا نزع هويتها منها ليتمكنوا من دثرها لأن هويتها ترتكز في نقطتين : دينها ولغتها . فلله دُرُّ أمة مثل هذه الأمة أحبة لغتها ودينها ، حتى أنها صمدت كل هذا الصمود الجبار أمام كل هذه الأعاصير العاتية التي مزقت أمم وأنتشلتها من ثقافاتها وقيمها لأجل كيان لقيط لا يوجد ألا في مخيلة التعساء ، كل ذلك لمحو هذه الأمة من الوجود لأنها تقف حجر عثر أمام ذلك الكيان .
ورغم أن الحال الذي نحن فيه اليوم كأمة ـ لا يرضينا نحن أبنائها الطامحون لأحياء مجدها ـ إلا أننا ـ ونحن بهذا الحال الضعيف ـ نشكل خطرا على ذلك الكيان .
فأقولها بكل صدق لأمتي ( لن تموتي فكاهلُ الأرض لا يقوى على حمل نعشكِ الجبار)أن أقتباس اللغة العربية ألفاظاً من لغة أخرى ليس دليل ضعف بل هو دليل مرونة وتطور وتلك سمة أتسمت بها كل اللغات عبر التاريخ الإنساني ، وهو ميزة جيدة ما لم يسبب أندثارا لتلك اللغة الأم .
هم يقولون أن اللغة العربية ليست لغة علم ، عجبا لكلامهم ، والأغرب قول المتقول متحديا لمن يعشق العربية : أجلب لي مرادف تلفزيون بالعربية . وأنا أقول له متحديا لبلاهته : أجلب لي مرادف سُكْر بالإنجليزية .
أن المنطق ـ لو كانوا للمنطق يعقلون ـ يقول أن لا لغة من لغة الأرض لا تستطيع أحتواء العلم ، والدليل على ذلك هو الشاهد التاريخي في الحضارات الإنسانية من حضارة الإنكا إلى الحضارة المغولية مرورا بحضارات الشرق التي تعددت فيه اللغات . مامن لغة لا تستطيع أحتواء العلم ، فلم ينزل جبريل بالإنجليزية فقط لتكون لغة علم ، ولا بالفرنسية لتكون لغة علم . أنما البشر هم من طوعوا اللغات لخدمة العلم فكانت خير خادم في كُلِّ الحضارات والإمم والشعوب ، فدعكم من هذا الهراء ، ولا يضير العربية أن يكون لفظة كمبيوتر أو تلفزيون ألفاظا مُعربة كما لم يضر الإنجليزية ـ من قبل ـ أن تكون كلمة سُكر وبرتقال مُغربة .
أني أقول لهؤلاء دعوكم من كل هذا الهراء ومن خُزعبلاتكم تلك ، وبدلا من أن تبحثوا عن شيء تُعلقون عليه فشلكم ، تحركوا وأنجزوا ، وأبدعوا ، فالإنسان هو من يصنع كل شيء في الحضارة سواء كان تُراث أو لغة أو ثقافة . هو من يُعلي قدر أمته أو يحط بها . ودعوكم من كل هذا التذمر . ولا تحاولوا إغواء الناس فكلامكم السخيف .
أنا لا أدافع عن هذه اللغة فهي أعظم من أن يُدافع عنها مُدافع ، فهي ليست في موضع ضعف ، أنما مقالتي هذه لأُنبه أولئك الذين يجهلون أنهم بما يقولون أنما يظهرون للناس جهلهم ويجعلون من أنفسهم موضع سخرية فهم لا ينظرون أبعد من أنوفهم ، وذلك الذي يسعى لأن يجعل من لغة الدارجة أو العامية لغة رسمية تُنشر بها المجلات والصُحف ، ويسعى بأن يهبط بالعقول بدل السعي للرقي بها بلغة راقية عذبه كاللغة العربية أنما بذلك يظهر ضعفه وأنحدار قدره ، فاللغة العربية لغة للأذكياء الفطناء لكنها ليست بالصعبة على الناس العاديين لذا فإن مثل هذا الإنسان أنما يشهد على نفسه أنه أحقر منزلة من الإنسان البسيط العامي ، لكن كيف بلغ منازل السلطة ليرسم طريق أمته ؟؟! سؤال يحتاج للكثير حتى يتم الإجابة عليه .
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( تفقهوا قبل أن تُسوَّدوا ) والتفقه ليس في الدين وحده بل في كل فروع العلم ما أمكن منه ، لأن العلم ينير القلوب ويفتح البصيرة فيقود صاحبه إلى طريق الحق والحقيقة ، ويمضي في كل أموره عن بصيرة وعن بينة من أمره . فلا يستوى الأعمى والبصير .
فالمُسفهين للغة العربية ثلاثة : جاهل لا يقدر على هذه اللغة العظيمة ففندها ولجئ إلى اللغة العامية التي تناسب مستواه السوقي البسيط فأراد أن يفرضها كلغة لأهل الصفوة ، وخائن أراد أن يعين الأعداء علينا بتفريق شملنا لأن اللغة هي أحد ركائز جمع شملنا كعرب ـ كما هو الحال في كُل الأمم ـ والأدهى أن من هؤلاء من هم في مواقع السلطة فقرروا أن يبثوا الجرائد باللغة العامية وفرضها على الجميع كلغة أدب ، وهم أنفسهم في مؤتمراتهم الرسمية يتحدثون باللغات الأجنبية بلسان مفوه رغم أن دساتيرهم تقول أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة وأذا تحدث العربية إلتوى لسانه ولم يُفصح فهو لا يلوي جهدا للقضاء على اللغة . قال أبو العُميثل لأبي تمام منتقداً شِعْرَهُ : يا أبا تَمَّام لِمَّ تَقولُ مَا لا يُفهم ؟ فأجابهُ أبُو تَمَّام : لِمَّ لا تَفهم مَا يُقال ؟ . وأخر يهرف بما لايعرف ، وصَدَّقَ ـ لجهله ـ ما قيل له بأن سبب تخلف أمتنا هي لغتها وديننا وهذا مجرد واحد من اولئك البغبغاوات المصفقة .
وليعلم الجاهلون أن سعي العدو لتدمير لغتنا العربية أنما ليضرب به عصفوران بحجر واحد ، فإن أندثرت العربية ـ وأقولها بكل ثقة أن ذلك لن يحدث أبدا ـ فسيصعُب قراءة القرآن على أتباع الإسلام مثلما حدث في ديانات أخرى مثل اليهودة والنصرانية . ليخرج لنا الصهاينة بعد ذلك أحبارا يكتبون لنا القرآن بأمانيهم ، فيغيرون الكلم عن موضعه حُباً لأسيادهم . وذلك لن يحدث لأن الله تعالى قال :
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } سورة الحجر9
وأخيرا ..
يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : ( أما بعد فتفقهوا في السُنة وتفقهوا في العربية ، وأعربُوا القرآن فإنه عربي )
أنها لغة خير الأنبياء ولغة خير الكتب المقدسة ، ولغة الشعب الذي ناظل من أجل أن يرفع راية الله عاليا عبر تاريخه ، وتحمَّل ومازال يتحمل الكثير من الويلات في سبيل ذلك ، وستبقى العربية صامدة شامخة مادام أن الله تكفل بحفظ كتابه الذي نزل بلسان عربي مبين .
منقول
محمد إسماعيل الصيفى
01008230096
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق