محمد إسماعيل الصيفى
0108230096
مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه ** اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم
شعر عربي
المعارضة أمر مهم لأي دولة تهدف للبناء وتسعى للرقي والإزدهار ، لأن وجود المعارضة في أي دولة تنبه لوجود رقباء على مصالح البلد بالتالي تكون كالرادع للنفس الأمارة بالسوء ، و وجودها يُأكد على وجود شعب حُرّ حيّ يسمو للحياة الكريمة على أرض وطنه ، لا تخلو دولة من معارضة مادام بها أشراف يحبون وطنهم ، وأيضا مادام بها أناس يلبسون عباءة المعارضة( لحاجة في نفس يعقوب ) .
وبما أن المعارضة هي عين الرقيب على الحكومة ، فإننا نجد عبر التاريخ أن الحكومات الفاسدة تسعى لذبح و وأد المعارضة والمعارضين ، لأنها لا تحب أن تسمع صوت يذكر مثالبها ، هؤلاء لا يُطِيقون إلا نَهِيق المُمجدين لهم أن أستحقوا أو لم يستحقوا ذلك التمجيد .
بسبب الوضع في منطقتنا وكثرة المتربصين ، فإن هذه الحكومات الفاسدة دوما تُفَنْد المعارضة على أنها مجرد عميلة لجهات أجنبية وأنهم مجرد مخربين ، في حين نجد أن هذه الحكومات لم تكلف نفسها يوما لتختبر هذه المعارضات هل هي صادقة أو لا ، ومع أعترافي بأن ليس كل معارضه شريفة ، ولكن أيضا ليس كل معارضة عميلة , ثم أي عدو تتحدث عنه هذه الحكومات ؟ لست أدري بصدق ، فكل أعداء الأمة هم عبارة عن أصدقاء وأحباب وأسياد لهذه الحكومات .
ورغم كل الظروف أمتنا بحاجة للمعرضة الشريفة ، ولابد للحق أن ينتصر ويكسر حندس العجاج ، فالنور لا يتبدد بينما العجاج لابد أن يأتيه حين ويتبدد .
فالمعارضة الشريفة هي النور الذي تحتاجه أوطاننا ، فقد سئمنا من تقديس الحُكام والملوك وتأليههم ، هم مجرد بشر لهم أخطأ يحتاجون لمن ينبههم أن أخطأوا ، ويوقفهم أن تمادوا ، وبهذا تسير عجلة البناء للأمام قُدُماً .
أدعو كُلُّ وطنيٍّ غيور ـ يرى أن له الحق أن يقول للخطأ خطأ كما يقول للصواب صواب ـ أن يقرأ سيرة الصحابي أبو ذَرٍّ الغِفَاريّ ، ليس شرطاً أن تكون مسلماً لتقتدي به ، لأنَّ الشُرَفاء تكون أخلاقهم النبيلة قُدوة لكل إنسانٍ نبيل بغض النظر عن دينهِ أو مذهبهِ .
سأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوماً أبا ذَرٍّ الغِفَارِيّ ـ رضي الله عنه ـ :( يا أبَا ذَرّ ، كيفَ أنتَ إذا أَدْركَكَ أُمراءٌ يَستَأْثِرون بِالْفَيء ؟
فأجاب قائلاً : إذاً ـ والذي بعثَكَ بالحقِّ ـ لأضرِبنَّ بسيفي .
فقال له الرسولُ صلى الله عليه وسلم : أَفلا أَدُلُّكَ عَلى خَيْرٍ مِنْ ذلكَ ؟ اصبرْ حتَّى تَلْقَانِي . )
أجل أصبر ، ولم يكن قصد النبي عليه السلام ـ وهو الرجل الحكيم المحنك ـ أسكات أبا ذَرّ وإنما وجهه للصواب ، فلقد كان هذا النبي مُعَلماً مُلهما لتلاميذه ومُريديه ، ولم يكن مُلقنا ، كان يعرف أطباع أصحابه ويسبر أغوارهم ويعلم مواهبهم وقدراتهم ـ وكذلك كل مُعلما مُلهم يجب أن يكون كذلك ـ فهو عَلِمَ من أول يوم أسلم فيه أبا ذَر ـ حين أتاه متخفيا يسأل عن الدين الجديد ـ علم صلى الله عليه وسلم قوة شكيمة هذا الرجل ، وعرف شجاعته وصدقه وقوة لسانه . فأراد أن يكون لسانه هو سيف الحق بدلا من أن يكون سيفه هو سبيل الفتن .
وأبو ذَرٍّ فهم وصية معلمه ونبيه أيما فهم فطبقها خير تطبيق وكان لسانه دوما سيفا مشهرا في وجوه أؤلئك الأُمَراء الذين أَغْرَقوا في الطيبات ، بينما رعيتهم غارقةٌ في الفقر ، فأطلق في وجوههم اللسان والكلمة المستبسلة وكلمة الحق . فالحق أبدا لا يكون فضيلة خرساء ، وما نفعها وهي جبانة صامتةٌ خرساء .
كان من أولئك الأمراء أصحابه وأخوته في الله أمثال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري ـ رضي الله عنهم جميعا ـ إلا أنه لم يصمت ويُجامل .
حين كاد يهُزُّ الشام بلسانه لا بسيفه على رأس معاوية بن أبي سفيان الذي كان حينها واليا من قِبل عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهم جميعا ـ على الشام ، أرسل معاوية لعثمان يقول له : " أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام "
فستدعاه عثمان للمدينة المنورة ـ وهي عاصمة الدولة الإسلامية حينئذ ـ فعرض عليه عثمان عرضا رقيقا رفيقا فقال له : " ابقَ هنا بجانبي تغدو عليك اللِّقاحُ وتروح "فقال له أبو ذر : " لا حاجة لي في دنياكم ".
أنه المعارض الشريف والمواطن الغيور ، لم يكن يعارض ليسكن القصور أو لينال السلطة أو الثروة و يجمع الدثور ، لذا طَبَعٌّي جداً أن تسمع منه هكذا جواب :" لا حاجة لي في دنياكم " .
وفي حين كان لا يَطلب سلطة ولا ثروة من معارضته الشريفه ، فهو أيضا حريص على أن لا يكون جسرا لفتنةٍ وهو الذي تعلم الحكمة من كتاب الله { الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } البقرة217 ، { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } البقرة191 ، وهو الذي يحفظ وصية نبيه ومُعلمه " اصبرْ حتَّى تَلْقَانِي " .
فحين أعتزل إلى " الرِّبذَة " جاءه وفد من الكوفه يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة ، فزجرهم قائلاً : ( والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو جبل لسمعت و أطعت ، و صبرت واحتسبت و رأيت ذلك خيراً لي . و لو سَيَرني ما بين الأفق إلى الأفق لسمعت و أطعت ، و صبرت و احتسبت و رأيت ذلك خيراً لي . و لو ردّني إلى منزلي لسمعت و أطعت ، و صبرت و احتسبت و رأيت ذلك خيراً لي ) .
فأهل الفتنه علموا أنه بلسانه وقوة شكيمته وجسارته أنقادت له الجموع ولو شاء لأشار لها ولأطاح بروؤس الفساد إلا أنه حفظ وصية نبيه .
هكذا حسم الرجل الأمر وحدد منهجه ، هو لا يسكت عن باطل لكنه لا يقود فتنةً أبدا .
كان الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ يقول في أبا ذَرّ : ( لم يبقَ اليوم أحدٌ لا يبالي في الله لومةَ لائم غير أبي ذَرّ ) .
فلقد عاش يناهض أستغلال السلطة و احتكار الثروات حتى منعوه من الفتوى فرفض أن يخرسوه ، فقال لمانعيه : ( والذي نفسي بيده ، لو وضعتم السيف فوق عُنقي ثم ظَننتُ أني مُنفذٌ كلمة سمعتُها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن تَحتزُّوا لأنفذتُها ) .
ذلك مثال شامخ للمعارضة الشريفة الشجاعة المستبسلة ، وأن المرء ليبصر ما يحدث حوله في أقطار الأمة فصيبه كمدا وحزنا . فكم من متلبس ثوب المعارضة و ماهو إلا عميلٌ خائن ، ما يكاد يظهر حتى تنكشف خباياه الخبثه ، فينفث سمومه في جسد الأمة . فالخونة في كل زمان ومكان {َلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً } الأحزاب14
والأدهى من المعارض (المصلحجي ) هو المعارض الغوغائي ، الذي يمضي خبط عشواء ، لا يعلم إلى أين يسير ولا ماذا يريد ، فيكون وبالا على قومه من حيث يدري ولا يدري ، و كم قد تم أستغلال أمثال هؤلاء لتنهب ثروات الشعوب وتضيع أوطانها .
فللمعارضة أصول ، فلا تصح المعارضة لمجرد المعارضة أو لإستعراض العضلات أو لتسفيه الأخر ولمجرد الإنتقاص منه ، أو يرى أن المعارضه تمنحه وجاهة في الناس ليقال أن لفلان رأي و شجاعة أو فلان من المهتمين بالسياسة ، فإنما تلك سفاهة خطيرة. ولا تصلح المعارضة بدون روؤيا وأهداف محدده واضحه ، ومنهاج قويم تنطلق منه .
لابد أن تكون لك إجندة وأن يكون لك هدف ترتكر عليه أفكارك ومبادئك ، ويجب أن تكون معارضا شريفا نبيلا وإلا كنت مجرد ذباب يراعي موضع الخلل ليس إلا .
وللمعارضه الشريفة أخلاقيات لا تخفى على ذي لب ، منها أحترام الخصم ، وأن يكون نقدك نقداً بناءاً لا غوغائيا همجياً . أن تكون معارضتك لا ترتكز في أنتهاك الحياة الشخصية للخصم وأنما أنتقد أعماله . نريد معارضة تدفع عجلة البناء ، لا معارضة تهدم ما تم بنائه . ولا تكون لأجد الحصول على مكاسب شخصية أنما لآجل رفع مكانة الوطن والمواطن والإزدهار والسمو والكرامة .
و المُعَارض الشريف لا يهرب من وطنه إلا مضطرا . وليسوا سواء من بقى في طنه يناضل من أجل الحق ومن هرب وصار ينادي من مكان سحيق . هو لا يطمح بمعارضته تلك لمجد شخصي ، أو مصالح فردية ، هو لا ينتهك حرمة خصمه ، بل يكون عادلا مع خصمة بذات قَدر العدالة التي تمناها أن تسود وطنه الغالي .
فخصمك مهما كان فهو بشر . وكما للبشر سيئات ، لهم كذلك حسنات ، وليس لأنه خصم أو لأنه في السلطة يصبح شيطانا رجيما يحق لك رجمه بما شئت و وقت شئت ، فخطيئة كبرى في حقوقنا أن نضيع بين الإفراط والتفريط ، بين مقدس مطلق لمن في السلطة وبين كارها مطلق لهم ، كشعب نحتاج أن ننظر بوسطية للأمر ، فأي ملك أو حاكم له أيجابياته و سلبياته ، فواجبنا أن نحافظ على الإيجابيات ونصحح السلبيات ونعارضها .
نحوكم العراق ، يقولون صدام كان (ديكتاتوريا) ـ ولن أُعِقب على هذه أبدا ـ و رأوا أنه يجب أن يزاح ، فأسأل أهل العقول :
هل يزاح بيد قوات أجنبية ؟
سيقولون : أنتم لا تعلمون ما عانينا ، فكيف نزيح هذا الدكتاتوري ؟
أقول : ليست إيران عنكم ببعيده ـ ولن أُعَقْب أيضا على تفاصيل الأمر ـ كيف تم أزالة الشاه (الدكتاتور) عن عرش إيران ؟
لماذا لم يستعن الخميني بقوات أجنبية وهو الذي جاء إلى طهران على متن طائرة فرنسية وبدعم غربي ، لقد كان يقدر ـ لو شاء ـ أن يجعل الإجنبي يطئ أرضه . لكنه كان يعلم علم اليقين ـ و هو مالا يخفى على عقل بشر ـ من { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } النمل34
هل تظن أن يأتي الأخر ويضحي بماله وأبنائه لأجلك ( ببلاش ) ؟
طبعا لا ، وهذه لم تخفى على أولئك الذين نصبوا نفسهم متحدثين بإسم العراق ، لكنهم لم تكن العراق أجندتهم ، بل المجد الشخصي والمصالح الخاصة من ثروة و سلطة وغيرها .
ثم أنكم دخلتم البلد وأسقطتم النظام ، فأروني ماذا فعلتم ؟
أين العدل ؟
أين الأمن ؟
أين تقسيم الثروة ؟
أين المساواة ؟
لي أصدقاء من العراق يحكون لي كيف يتم توزيع المنح الدراسية تبعا لحصص حزبية ، ثم أنه أن تصادف وجود طلب لأحد المحسوبين على أحد (المسوؤلين ) في السلطة ، فسيتم تقديمه على المواطن العادي حتى لو كان يتمتع بإحقيه من الناحية القانونية وحتى لو توفرت فيه الشروط أكثر من قريب ذلك ( المسؤول ) .
ثم أكان عهد صدام كله سيء ؟؟!
ألم توجد حسنة أبدا ؟
لقد أطلعنا على كثير من التقارير الغربية وتقارير الأمم المتحدة تتحدث عن المستوى العالي في العراق أيام صدام حسين في شبكة المواصلات وفي الناحية الطبية وفي أرتفاع عدد العلماء النوابغ وخاصة في الكيمياء والفيزياء والطب وفي مجال التعليم .
أين كل ذلك الأن ؟
ألم يكن حقيقا على أولئك المدعين أن يحافظوا على تلك الإنجازات ، وليبدؤا من حيث أنتهت ، لأجل سمو الدولة و رُقيّها و إزدهارها ؟
لكن ماذا حدث ؟؟
أحرقة المتاحف ، وأحرقت أكبر مكتبه تضم مآثر هذه الأمة ( مكتبة دار الحكمة) ، وضاعت تحف سومارية وآشورية ، وصارت من المقتنيات الشخصية لأثرياء أروبا وأمريكا ، وقتل العلماء بكافة تخصصاتهم ، ومنهم من لاذ بالفرار نجاة بحياته فتلقفتهم أمم أخرى ، لنخسر نحنا أولئك النوابغ ويستفيد من علمهم ونبوغهم غيرنا .
والتعليم فتلك قصة حزينة ، تُظهر الوجه البشع لأهل المطامع و الدثور المتسترين بعباءة المعارضة .
إليكم قصة التعليم الحزينة : أيام كان صدام حسين ( نائبا لرئيس ) العراق بدء مشروعا طموحا ، وهو محو الأمية في دولته ، يظهر مدى جدية الرجل في تأكيد هذا الطموح ولبلوغ الهدف السامي له أنه سن قانونا يصل الى السجن ثلاث سنوات لمن يتخلف عن فصول محو الأمية لتعلم القراءة والكتابة .
ماذا كانت النتيجة ؟؟؟
النتيجة هي أن أختارت الأمم المتحدة العراق عام 1982م بلدا ( خاليا ) من الأمية ، بينما مستوى التعليم في عام 1973 م أقل من 40% ) .
واليوم بعد أن أتى اؤلئك المعارضين المزعومين ، صار أطفال العراق في الشوارع بين متسول ، أو بائع بانزين يمتص البنزين بفمه ليدفعه عبر الخرطوم ويسكبه في خزان السيارات التي يبيع لها البنزين مقابل دينارات لا تساوي ثمن صحته والخطر المحدق به من هذا العمل ، وأخرون يعملون هنا وهناك في ورش نجارة أو خبازين أو حمالين ، ليعولوا أسرهم فضحوا بالتعليم مقابل لقمة العيش .
ستعود الأمية في العراق أقوى مما كانت ، بفضل (المعارضين المزعومين ) .
مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه ** اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم
في كتاب الأستاذ خليل الدليمي ـ محامي الرئيس صادام حسين أيام محاكمات الأمريكيين له وأعوانهم ـ ( صدام حسين من الزنزانة الأمريكية : ماذا حدث ) أورد مقالا للأستاذ علي الصراف كنموذج من مجموعة مقالات لهذا الرجل الذي كان طيلة حياته معارضا لصدام حسين ، كان هذا المقال شاهد للأستاذ علي الصراف كرجل وطني ومعارض شريف ، لأنه وببساطه أمتلك الشجاعة لأن يعلن للملأ ـ عبر مقالاته ـ عن حسنات أمتلكها خصمه ، وما خشي أن يتهمه أولئك القابضين على رقاب العباد بأتهامات وسب فاحش تعودوا أن يطلقوها على خصومهم حتى في أبسط المقابلات الصحفية ، تحية لشجاعة ذلك المعارض النزيه ، ولكل محب لوطنه ، ولكل نزيه وشريف .
وأخيرا ...
كُنْ معارضاً شريفاً بلسانك ونبل أخلاقك لا بسيفك ولا تكون عونا على أمتك بل عونا لها ، أو أترك المعارضة لمن هم أجدر وأعلم بأصولها منك ، لأنَّ :
من يُلاقِي النار بالنارِ يزِدْهَا ** لهَباً أطفاءهُ يغدُو مُحالاَ
لا نامت أعين الجبناء
تقبلوا فائق إحترامي
0108230096
مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه ** اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم
شعر عربي
المعارضة أمر مهم لأي دولة تهدف للبناء وتسعى للرقي والإزدهار ، لأن وجود المعارضة في أي دولة تنبه لوجود رقباء على مصالح البلد بالتالي تكون كالرادع للنفس الأمارة بالسوء ، و وجودها يُأكد على وجود شعب حُرّ حيّ يسمو للحياة الكريمة على أرض وطنه ، لا تخلو دولة من معارضة مادام بها أشراف يحبون وطنهم ، وأيضا مادام بها أناس يلبسون عباءة المعارضة( لحاجة في نفس يعقوب ) .
وبما أن المعارضة هي عين الرقيب على الحكومة ، فإننا نجد عبر التاريخ أن الحكومات الفاسدة تسعى لذبح و وأد المعارضة والمعارضين ، لأنها لا تحب أن تسمع صوت يذكر مثالبها ، هؤلاء لا يُطِيقون إلا نَهِيق المُمجدين لهم أن أستحقوا أو لم يستحقوا ذلك التمجيد .
بسبب الوضع في منطقتنا وكثرة المتربصين ، فإن هذه الحكومات الفاسدة دوما تُفَنْد المعارضة على أنها مجرد عميلة لجهات أجنبية وأنهم مجرد مخربين ، في حين نجد أن هذه الحكومات لم تكلف نفسها يوما لتختبر هذه المعارضات هل هي صادقة أو لا ، ومع أعترافي بأن ليس كل معارضه شريفة ، ولكن أيضا ليس كل معارضة عميلة , ثم أي عدو تتحدث عنه هذه الحكومات ؟ لست أدري بصدق ، فكل أعداء الأمة هم عبارة عن أصدقاء وأحباب وأسياد لهذه الحكومات .
ورغم كل الظروف أمتنا بحاجة للمعرضة الشريفة ، ولابد للحق أن ينتصر ويكسر حندس العجاج ، فالنور لا يتبدد بينما العجاج لابد أن يأتيه حين ويتبدد .
فالمعارضة الشريفة هي النور الذي تحتاجه أوطاننا ، فقد سئمنا من تقديس الحُكام والملوك وتأليههم ، هم مجرد بشر لهم أخطأ يحتاجون لمن ينبههم أن أخطأوا ، ويوقفهم أن تمادوا ، وبهذا تسير عجلة البناء للأمام قُدُماً .
أدعو كُلُّ وطنيٍّ غيور ـ يرى أن له الحق أن يقول للخطأ خطأ كما يقول للصواب صواب ـ أن يقرأ سيرة الصحابي أبو ذَرٍّ الغِفَاريّ ، ليس شرطاً أن تكون مسلماً لتقتدي به ، لأنَّ الشُرَفاء تكون أخلاقهم النبيلة قُدوة لكل إنسانٍ نبيل بغض النظر عن دينهِ أو مذهبهِ .
سأل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوماً أبا ذَرٍّ الغِفَارِيّ ـ رضي الله عنه ـ :( يا أبَا ذَرّ ، كيفَ أنتَ إذا أَدْركَكَ أُمراءٌ يَستَأْثِرون بِالْفَيء ؟
فأجاب قائلاً : إذاً ـ والذي بعثَكَ بالحقِّ ـ لأضرِبنَّ بسيفي .
فقال له الرسولُ صلى الله عليه وسلم : أَفلا أَدُلُّكَ عَلى خَيْرٍ مِنْ ذلكَ ؟ اصبرْ حتَّى تَلْقَانِي . )
أجل أصبر ، ولم يكن قصد النبي عليه السلام ـ وهو الرجل الحكيم المحنك ـ أسكات أبا ذَرّ وإنما وجهه للصواب ، فلقد كان هذا النبي مُعَلماً مُلهما لتلاميذه ومُريديه ، ولم يكن مُلقنا ، كان يعرف أطباع أصحابه ويسبر أغوارهم ويعلم مواهبهم وقدراتهم ـ وكذلك كل مُعلما مُلهم يجب أن يكون كذلك ـ فهو عَلِمَ من أول يوم أسلم فيه أبا ذَر ـ حين أتاه متخفيا يسأل عن الدين الجديد ـ علم صلى الله عليه وسلم قوة شكيمة هذا الرجل ، وعرف شجاعته وصدقه وقوة لسانه . فأراد أن يكون لسانه هو سيف الحق بدلا من أن يكون سيفه هو سبيل الفتن .
وأبو ذَرٍّ فهم وصية معلمه ونبيه أيما فهم فطبقها خير تطبيق وكان لسانه دوما سيفا مشهرا في وجوه أؤلئك الأُمَراء الذين أَغْرَقوا في الطيبات ، بينما رعيتهم غارقةٌ في الفقر ، فأطلق في وجوههم اللسان والكلمة المستبسلة وكلمة الحق . فالحق أبدا لا يكون فضيلة خرساء ، وما نفعها وهي جبانة صامتةٌ خرساء .
كان من أولئك الأمراء أصحابه وأخوته في الله أمثال أبو هريرة وأبو موسى الأشعري ـ رضي الله عنهم جميعا ـ إلا أنه لم يصمت ويُجامل .
حين كاد يهُزُّ الشام بلسانه لا بسيفه على رأس معاوية بن أبي سفيان الذي كان حينها واليا من قِبل عثمان بن عفان ـ رضي الله عنهم جميعا ـ على الشام ، أرسل معاوية لعثمان يقول له : " أن أبا ذر قد أفسد الناس بالشام "
فستدعاه عثمان للمدينة المنورة ـ وهي عاصمة الدولة الإسلامية حينئذ ـ فعرض عليه عثمان عرضا رقيقا رفيقا فقال له : " ابقَ هنا بجانبي تغدو عليك اللِّقاحُ وتروح "فقال له أبو ذر : " لا حاجة لي في دنياكم ".
أنه المعارض الشريف والمواطن الغيور ، لم يكن يعارض ليسكن القصور أو لينال السلطة أو الثروة و يجمع الدثور ، لذا طَبَعٌّي جداً أن تسمع منه هكذا جواب :" لا حاجة لي في دنياكم " .
وفي حين كان لا يَطلب سلطة ولا ثروة من معارضته الشريفه ، فهو أيضا حريص على أن لا يكون جسرا لفتنةٍ وهو الذي تعلم الحكمة من كتاب الله { الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } البقرة217 ، { وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ } البقرة191 ، وهو الذي يحفظ وصية نبيه ومُعلمه " اصبرْ حتَّى تَلْقَانِي " .
فحين أعتزل إلى " الرِّبذَة " جاءه وفد من الكوفه يسألونه أن يرفع راية الثورة ضد الخليفة ، فزجرهم قائلاً : ( والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو جبل لسمعت و أطعت ، و صبرت واحتسبت و رأيت ذلك خيراً لي . و لو سَيَرني ما بين الأفق إلى الأفق لسمعت و أطعت ، و صبرت و احتسبت و رأيت ذلك خيراً لي . و لو ردّني إلى منزلي لسمعت و أطعت ، و صبرت و احتسبت و رأيت ذلك خيراً لي ) .
فأهل الفتنه علموا أنه بلسانه وقوة شكيمته وجسارته أنقادت له الجموع ولو شاء لأشار لها ولأطاح بروؤس الفساد إلا أنه حفظ وصية نبيه .
هكذا حسم الرجل الأمر وحدد منهجه ، هو لا يسكت عن باطل لكنه لا يقود فتنةً أبدا .
كان الإمام علي بن أبي طالب ـ كرم الله وجهه ـ يقول في أبا ذَرّ : ( لم يبقَ اليوم أحدٌ لا يبالي في الله لومةَ لائم غير أبي ذَرّ ) .
فلقد عاش يناهض أستغلال السلطة و احتكار الثروات حتى منعوه من الفتوى فرفض أن يخرسوه ، فقال لمانعيه : ( والذي نفسي بيده ، لو وضعتم السيف فوق عُنقي ثم ظَننتُ أني مُنفذٌ كلمة سمعتُها من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن تَحتزُّوا لأنفذتُها ) .
ذلك مثال شامخ للمعارضة الشريفة الشجاعة المستبسلة ، وأن المرء ليبصر ما يحدث حوله في أقطار الأمة فصيبه كمدا وحزنا . فكم من متلبس ثوب المعارضة و ماهو إلا عميلٌ خائن ، ما يكاد يظهر حتى تنكشف خباياه الخبثه ، فينفث سمومه في جسد الأمة . فالخونة في كل زمان ومكان {َلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً } الأحزاب14
والأدهى من المعارض (المصلحجي ) هو المعارض الغوغائي ، الذي يمضي خبط عشواء ، لا يعلم إلى أين يسير ولا ماذا يريد ، فيكون وبالا على قومه من حيث يدري ولا يدري ، و كم قد تم أستغلال أمثال هؤلاء لتنهب ثروات الشعوب وتضيع أوطانها .
فللمعارضة أصول ، فلا تصح المعارضة لمجرد المعارضة أو لإستعراض العضلات أو لتسفيه الأخر ولمجرد الإنتقاص منه ، أو يرى أن المعارضه تمنحه وجاهة في الناس ليقال أن لفلان رأي و شجاعة أو فلان من المهتمين بالسياسة ، فإنما تلك سفاهة خطيرة. ولا تصلح المعارضة بدون روؤيا وأهداف محدده واضحه ، ومنهاج قويم تنطلق منه .
لابد أن تكون لك إجندة وأن يكون لك هدف ترتكر عليه أفكارك ومبادئك ، ويجب أن تكون معارضا شريفا نبيلا وإلا كنت مجرد ذباب يراعي موضع الخلل ليس إلا .
وللمعارضه الشريفة أخلاقيات لا تخفى على ذي لب ، منها أحترام الخصم ، وأن يكون نقدك نقداً بناءاً لا غوغائيا همجياً . أن تكون معارضتك لا ترتكز في أنتهاك الحياة الشخصية للخصم وأنما أنتقد أعماله . نريد معارضة تدفع عجلة البناء ، لا معارضة تهدم ما تم بنائه . ولا تكون لأجد الحصول على مكاسب شخصية أنما لآجل رفع مكانة الوطن والمواطن والإزدهار والسمو والكرامة .
و المُعَارض الشريف لا يهرب من وطنه إلا مضطرا . وليسوا سواء من بقى في طنه يناضل من أجل الحق ومن هرب وصار ينادي من مكان سحيق . هو لا يطمح بمعارضته تلك لمجد شخصي ، أو مصالح فردية ، هو لا ينتهك حرمة خصمه ، بل يكون عادلا مع خصمة بذات قَدر العدالة التي تمناها أن تسود وطنه الغالي .
فخصمك مهما كان فهو بشر . وكما للبشر سيئات ، لهم كذلك حسنات ، وليس لأنه خصم أو لأنه في السلطة يصبح شيطانا رجيما يحق لك رجمه بما شئت و وقت شئت ، فخطيئة كبرى في حقوقنا أن نضيع بين الإفراط والتفريط ، بين مقدس مطلق لمن في السلطة وبين كارها مطلق لهم ، كشعب نحتاج أن ننظر بوسطية للأمر ، فأي ملك أو حاكم له أيجابياته و سلبياته ، فواجبنا أن نحافظ على الإيجابيات ونصحح السلبيات ونعارضها .
نحوكم العراق ، يقولون صدام كان (ديكتاتوريا) ـ ولن أُعِقب على هذه أبدا ـ و رأوا أنه يجب أن يزاح ، فأسأل أهل العقول :
هل يزاح بيد قوات أجنبية ؟
سيقولون : أنتم لا تعلمون ما عانينا ، فكيف نزيح هذا الدكتاتوري ؟
أقول : ليست إيران عنكم ببعيده ـ ولن أُعَقْب أيضا على تفاصيل الأمر ـ كيف تم أزالة الشاه (الدكتاتور) عن عرش إيران ؟
لماذا لم يستعن الخميني بقوات أجنبية وهو الذي جاء إلى طهران على متن طائرة فرنسية وبدعم غربي ، لقد كان يقدر ـ لو شاء ـ أن يجعل الإجنبي يطئ أرضه . لكنه كان يعلم علم اليقين ـ و هو مالا يخفى على عقل بشر ـ من { إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } النمل34
هل تظن أن يأتي الأخر ويضحي بماله وأبنائه لأجلك ( ببلاش ) ؟
طبعا لا ، وهذه لم تخفى على أولئك الذين نصبوا نفسهم متحدثين بإسم العراق ، لكنهم لم تكن العراق أجندتهم ، بل المجد الشخصي والمصالح الخاصة من ثروة و سلطة وغيرها .
ثم أنكم دخلتم البلد وأسقطتم النظام ، فأروني ماذا فعلتم ؟
أين العدل ؟
أين الأمن ؟
أين تقسيم الثروة ؟
أين المساواة ؟
لي أصدقاء من العراق يحكون لي كيف يتم توزيع المنح الدراسية تبعا لحصص حزبية ، ثم أنه أن تصادف وجود طلب لأحد المحسوبين على أحد (المسوؤلين ) في السلطة ، فسيتم تقديمه على المواطن العادي حتى لو كان يتمتع بإحقيه من الناحية القانونية وحتى لو توفرت فيه الشروط أكثر من قريب ذلك ( المسؤول ) .
ثم أكان عهد صدام كله سيء ؟؟!
ألم توجد حسنة أبدا ؟
لقد أطلعنا على كثير من التقارير الغربية وتقارير الأمم المتحدة تتحدث عن المستوى العالي في العراق أيام صدام حسين في شبكة المواصلات وفي الناحية الطبية وفي أرتفاع عدد العلماء النوابغ وخاصة في الكيمياء والفيزياء والطب وفي مجال التعليم .
أين كل ذلك الأن ؟
ألم يكن حقيقا على أولئك المدعين أن يحافظوا على تلك الإنجازات ، وليبدؤا من حيث أنتهت ، لأجل سمو الدولة و رُقيّها و إزدهارها ؟
لكن ماذا حدث ؟؟
أحرقة المتاحف ، وأحرقت أكبر مكتبه تضم مآثر هذه الأمة ( مكتبة دار الحكمة) ، وضاعت تحف سومارية وآشورية ، وصارت من المقتنيات الشخصية لأثرياء أروبا وأمريكا ، وقتل العلماء بكافة تخصصاتهم ، ومنهم من لاذ بالفرار نجاة بحياته فتلقفتهم أمم أخرى ، لنخسر نحنا أولئك النوابغ ويستفيد من علمهم ونبوغهم غيرنا .
والتعليم فتلك قصة حزينة ، تُظهر الوجه البشع لأهل المطامع و الدثور المتسترين بعباءة المعارضة .
إليكم قصة التعليم الحزينة : أيام كان صدام حسين ( نائبا لرئيس ) العراق بدء مشروعا طموحا ، وهو محو الأمية في دولته ، يظهر مدى جدية الرجل في تأكيد هذا الطموح ولبلوغ الهدف السامي له أنه سن قانونا يصل الى السجن ثلاث سنوات لمن يتخلف عن فصول محو الأمية لتعلم القراءة والكتابة .
ماذا كانت النتيجة ؟؟؟
النتيجة هي أن أختارت الأمم المتحدة العراق عام 1982م بلدا ( خاليا ) من الأمية ، بينما مستوى التعليم في عام 1973 م أقل من 40% ) .
واليوم بعد أن أتى اؤلئك المعارضين المزعومين ، صار أطفال العراق في الشوارع بين متسول ، أو بائع بانزين يمتص البنزين بفمه ليدفعه عبر الخرطوم ويسكبه في خزان السيارات التي يبيع لها البنزين مقابل دينارات لا تساوي ثمن صحته والخطر المحدق به من هذا العمل ، وأخرون يعملون هنا وهناك في ورش نجارة أو خبازين أو حمالين ، ليعولوا أسرهم فضحوا بالتعليم مقابل لقمة العيش .
ستعود الأمية في العراق أقوى مما كانت ، بفضل (المعارضين المزعومين ) .
مَتى يَبلُغ البُنيانُ يَوماً تَمامَه ** اِذا كُنت تَبنيهِ وَغَيرك يَهدِم
في كتاب الأستاذ خليل الدليمي ـ محامي الرئيس صادام حسين أيام محاكمات الأمريكيين له وأعوانهم ـ ( صدام حسين من الزنزانة الأمريكية : ماذا حدث ) أورد مقالا للأستاذ علي الصراف كنموذج من مجموعة مقالات لهذا الرجل الذي كان طيلة حياته معارضا لصدام حسين ، كان هذا المقال شاهد للأستاذ علي الصراف كرجل وطني ومعارض شريف ، لأنه وببساطه أمتلك الشجاعة لأن يعلن للملأ ـ عبر مقالاته ـ عن حسنات أمتلكها خصمه ، وما خشي أن يتهمه أولئك القابضين على رقاب العباد بأتهامات وسب فاحش تعودوا أن يطلقوها على خصومهم حتى في أبسط المقابلات الصحفية ، تحية لشجاعة ذلك المعارض النزيه ، ولكل محب لوطنه ، ولكل نزيه وشريف .
وأخيرا ...
كُنْ معارضاً شريفاً بلسانك ونبل أخلاقك لا بسيفك ولا تكون عونا على أمتك بل عونا لها ، أو أترك المعارضة لمن هم أجدر وأعلم بأصولها منك ، لأنَّ :
من يُلاقِي النار بالنارِ يزِدْهَا ** لهَباً أطفاءهُ يغدُو مُحالاَ
لا نامت أعين الجبناء
تقبلوا فائق إحترامي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق